يعمل محمد سالم في المملكة العربية السعودية، ويرسل شهريًا حوالات مالية لعائلته في مدينة صنعاء، والتي يسيطر عليها الحوثيون منذ 2014، لكن في الفترة الأخيرة زادت العقبات أمام التعامل مع البنوك اليمنية. يقول لـ”مواطن”: “يتم أحيانًا رفض التحويل، ويخبرونني بأن شبكة التحويل التي أستخدمها قد تم إيقاف التعامل معها؛ فاضطر إلى استخدام شبكة أخرى”.
يخشى محمد أن يصبح غير قادر على تحويل الأموال نهائيًا إلى عائلته، أو أن يضطر لإرسالها إلى مناطق الحكومة المعترف بها دوليًا، ليتم نقلها برًّا إلى صنعاء. يصف المعاناة قائلًا: “إنّ هذه العملية معقدة؛ أن أرسل المال إلى أحد أقاربي في مناطق الحكومة الشرعية، ثم يقوم بالذهاب إلى الفرزة (محطة باصات النقل) وإرسالها مع سائق الباص، قد يستغرق ذلك أيامًا أو أسابيع، ولا أريد أن يكون هذا هو الحل الوحيد”.
عقوبات اقتصادية أمريكية
في تحول لافت في المشهد المصرفي اليمني، أعلن البنك المركزي في عدن في 15 من مارس/ آذار، عن تلقيه بلاغًا خطيًا من ثمانية بنوك تجارية تتخذ من صنعاء مقرًا رئيسًا لها، يفيد بنقل أعمالها إلى العاصمة المؤقتة عدن، وهي: بنك التضامن، وبنك الكريمي للتمويل الأصغر الإسلامي، ومصرف اليمن والبحرين الشامل، والبنك اليمني الإسلامي للتمويل والاستثمار، وبنك سبأ الإسلامي، وبنك اليمن والخليج، والبنك التجاري اليمني، وبنك اليمن للتمويل الأصغر. جاء هذا التحول بعد إعادة تصنيف الرئيس دونالد ترامب جماعة الحوثيين (أنصار الله) كمنظمة إرهابية أجنبية بعد عودته إلى البيت الأبيض، وما سبقه من عقوبات فرضتها الإدارة السابقة على كيانات مصرفية وشخصيات مرتبطة بالجماعة، إضافة إلى فرض حظر على استيراد المشتقات النفطية عبر ميناء الحديدة، وبالجملة، المخاوف الكبيرة من سياسة ترامب الحازمة تجاه الحوثيين.
يفتح ذلك الباب أمام العديد من التساؤلات حول التداعيات الاقتصادية، والتأثير على القطاع المصرفي، والانعكاسات على المواطنين والتجار، كما ترتفع المخاطر في ظل استمرار المواجهة العسكرية بين الحوثيين من جانب، وبين الولايات المتحدة وحلفائها من جانب آخر، والتي من المرجح أنّ تؤدي لمزيد من العقوبات والقيود على القطاع المالي في مناطق سيطرة الحوثيين.
تصنيف جماعة الحوثي كمنظمة إرهابية من قبل الولايات المتحدة، وفرض عقوبات على أفراد وكيانات مالية مرتبطة، بها لعب الدور الأكبر في قرار عدد من البنوك نقل عملياتها إلى عدن.
لم يكن القرار الأخير سوى جزء من مشهد أوسع من الانقسام المالي الذي يعيشه البلد منذ اندلاع الحرب في 2015؛ ففي سبتمبر/ أيلول 2016، قررت الحكومة اليمنية المعترف بها دوليًا، نقل مقر البنك المركزي من صنعاء إلى عدن، متهمة جماعة الحوثي باستخدام البنك في تمويل أنشطتها العسكرية. أدى هذا القرار إلى انقسام واضح في القطاع المصرفي؛ ففي صنعاء واصلت البنوك العمل تحت سلطة الحوثيين، الذين فرضوا قيودًا صارمةً على التحويلات المالية، ومنعوا تداول العملة الجديدة التي طبعتها الحكومة الشرعية؛ ما أدى إلى خلق سعرين مختلفين لصرف العملة المحلية؛ فالريال الصادر من عدن منخفض القيمة مقارنةً بالريال المستخدم في صنعاء. بلغ سعر صرف الريال مقابل الدولار في صنعاء 537 ريالًا، مقابل 2386 ريالًا في عدن، بتاريخ في 19 من مارس/ آذار.
سبقت العقوبات الأمريكية أخرى يمنية؛ حين فرض البنك المركزي في عدن قيودًا على البنوك التي لم تنقل أعمالها إلى العاصمة المؤقتة، وذلك في أبريل/ نيسان 2024، وتبعها بنحو شهر إيقاف التعامل مع ستة بنوك تجارية لم تمتثل لتوجيهات البنك، وكان من المتوقع اتخاذ مزيد من الإجراءات القانونية، إلا أن هذه القرارات أُلغيت لاحقًا تحت تأثير ضغوط سياسية من المبعوث الأممي إلى اليمن، هانس غروندبرغ.
إجمالًا، تسبب الانقسام المصرفي في تعقيد حركة الأموال داخل البلد؛ ما أثر بشكل مباشر على القطاع التجاري، وصعّب من حصول المواطنين والشركات على الخدمات المالية الأساسية.
تأثير العقوبات الأمريكية
يرى خبراء اقتصاديون أن تصنيف جماعة الحوثي كمنظمة إرهابية من قبل الولايات المتحدة، وفرض عقوبات على أفراد وكيانات مالية مرتبطة بها، لعب الدور الأساسي في قرار عدد من البنوك نقل عملياتها إلى عدن. يقول رئيس مركز الدراسات والإعلام الاقتصادي، مصطفى نصر: “إن قرار النقل لم يكن اختيارًا؛ بل كان خطوة إجبارية لحماية البنوك من العقوبات التي قد تؤدي إلى تدميرها، كما حدث مع بنك اليمن والكويت، الذي شملته العقوبات الأمريكية”.
ويضيف لـ”مواطن” أن استمرار عمل البنوك من صنعاء سيجعلها عرضةً لخطر العزلة المالية الدولية؛ خاصة أن القطاع المصرفي اليمني يعتمد على بنوك المراسلة الخارجية في تنفيذ معاملاته المالية، لافتًا إلى أنّه مع تزايد القيود الدولية على التحويلات المالية المرتبطة بمناطق سيطرة الحوثيين، باتت البنوك أمام خيارين: إما الانتقال إلى عدن لحماية عملياتها المالية، أو مواجهة خطر الانهيار بسبب العقوبات.
من جانبه، يشير الخبير الاقتصادي، وفيق صالح، إلى أن البنوك أدركت جيدًا أن عليها هذه المرة المسارعة إلى التنسيق مع الحكومة المعترف بها دوليًا، والانتقال إلى مناطق سيطرتها من أجل الحفاظ على مصالحها. ويقول لـ”مواطن”: “إنّ البنوك أخذت مسألة العقوبات الأمريكية المفروضة على محمل الجد؛ فهي تدرك ماذا يعني تصنيف الحوثيين كمنظمة إرهابية أجنبية، وتدرك أن لهذا التصنيف تداعياتٍ ومخاطرَ كبيرةً على كافة التعاملات المالية للبنوك مع العالم الخارجي”.
كيف يتعامل الحوثيون مع القرار؟
بالرغم من أن هذه الخطوة قد تساعد على إعادة ربط البنوك اليمنية التي تنتقل لعدن بالنظام المالي الدولي عبر البنك المركزي، وتسهيل معاملاتها المالية؛ فإنها تحمل تحديات كبيرة خصوصًا على المستوى المحلي. يعقب “صالح” بأن الانتقال لا يعني بالضرورة استقرار القطاع المصرفي؛ إذ إن البنية التحتية المالية في عدن ما زالت بحاجة إلى إصلاحات كبيرة، كما أن الأوضاع الأمنية والسياسية في المدينة قد تؤثر على سير العمليات المصرفية بسلاسة؛ فتتنامى مخاوف من أنّ تؤدي الخطوة إلى مزيد من العزلة للنظام المالي في صنعاء، وبالتالي تعميق الانقسام المالي بين مناطق سيطرة الحكومة والحوثيين، وهو الثمن الذي سيتحمله المواطن في المقام الأول.
بدوره ردّ البنك المركزي في صنعاء بإبلاغ جمعية الصرافين بوقف التعامل مع مجموعة من شبكات التحويل المالية وبعض البنوك، وهي: منشأة أحمد السويدي للصرافة، منشأة محمد محرقي للصرافة، منشأة علي عبد الكريم للصرافة، منشأة سامي اليمني للصرافة، منشأة الشرق للصرافة، شبكة الكريمي إكسبرس، بزعم مخالفتها لتوجيهاته. من جانبه يصف المحلل السياسي عبد الواسع الفاتكي هذا القرار بأنّه “تصعيد سياسي واقتصادي بين الحكومة الشرعية والحوثيين”، مشيرًا إلى أنّ الحوثيين يوظفون عمل البنوك في صنعاء كورقة ضغط اقتصادي؛ من خلال فرض إتاوات ورسوم باهظة على المعاملات المصرفية، وعرقلة تحويل الأموال داخليًا، ولهذا فرضوا مزيدًا من القيود المالية على شبكات تحويل الأموال في مناطق سيطرتهم كإجراء عقابي ضدّ الحكومة الشرعية.

ويرجح في حديثه لـ”مواطن” أنّ الجماعة لن تكتفي بهذه الخطوات؛ بل قد تصعّد إجراءاتها العقابية ضد البنوك التي تنقل مقراتها، من خلال مصادرة أصولها المالية، أو وضع يدها على الأموال الضخمة والتأمينية لها في البنك المركزي اليمني في صنعاء، والتي يقدرها بتريليونات الريالات. محذرًا من أنّ هذه الإجراءات قد تشمل اختطاف أو سجن مديري تلك البنوك الموجودين في مناطق سيطرتهم، لإرغامهم على التراجع عن قراراتهم.
أما تداعيات هذه الإجراءات على الحياة المعيشية للمواطنين؛ فيقول الفاتكي: “إنّ جماعة الحوثي لا تكترث لأي تداعيات كارثية اقتصادية قد تهدد الحالة الإنسانية في المناطق الخاضعة لسيطرتها، لأنها اعتادت على استغلال تأزم الأوضاع الاقتصادية والإنسانية كأوراق تفاوض”.
يبدو أن هناك توجهًا لدعم البنك المركزي في عدن باعتباره الجهة الشرعية للمعاملات المالية، مع تزايد الضغوط الدولية على الحوثيين. يذهب مصطفى نصر إلى أن “أي دعم دولي مستقبلي للقطاع المصرفي اليمني، سيكون عبر البنك المركزي في عدن، باعتباره البنك المعترف به دوليًا، وهو ما سيساعد على تخفيف المخاطر المالية التي تواجه البنوك التي قررت نقل عملياتها”.
من جهة أخرى، يرى “الفاتكي” أن الحكومة الشرعية قد تستغل هذا التحول لتعزيز نفوذها المالي، من خلال إعادة تفعيل قرارات سحب تراخيص البنوك التي لم تنتقل لعدن، أو منعها من استخدام نظام SWIFT للمعاملات المالية الدولية، وهو إن حدث؛ سيزيد من الضغوط المالية والاقتصادية على الحوثيين، وليس ذلك ببعيد عن مسارات تسوية الأزمة اليمنية.
المواطن يدفع الثمن
تعليقًا على تأثير هذه التحولات على مجتمع الأعمال، يرى رجل الأعمال منيف الشريف، أن قرار انتقال البنوك سيترك أثرًا كبيرًا بالسلب على الوضع المالي ومجتمع المال والأعمال، سواء أكان في المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين أو مناطق الحكومة الشرعية. لكنه يعتقد أنه وبرغم قتامة الوضع حاليًا؛ فإن انتقال البنوك إلى عدن سيسهل التعاملات المالية مع النظام المالي الدولي، كما أنه سيزيد من تدفق النقد الأجنبي مقارنة بما هو متاح حاليًا، هذا إذا نجح البنك المركزي في عدن في توفير بيئة خصبة وآمنة، وتقديم تسهيلات مصرفية.
الجماعة لن تكتفي بهذه الخطوات؛ بل قد تصعّد إجراءاتها العقابية ضد البنوك التي تنقل مقراتها، من خلال مصادرة أصولها المالية، أو وضع يدها على الأموال الضخمة والتأمينية لها في البنك المركزي اليمني في صنعاء، التي يقدرها بتريليونات الريالات
ويسرد لمواطن بأنّ عمليات الاستيراد والتصدير تحتاج إلى سيولة كبيرة من النقد الأجنبي، وهو ما لا تستطيع البنوك في صنعاء توفيره؛ خاصة مع العقوبات الجزئية المفروضة على بعضها، وتوقف التحويلات المالية من العديد من الدول إلى صنعاء منذ الحرب؛ ما اضطر رجال الأعمال إلى شراء النقد الأجنبي من السوق السوداء بأسعار مرتفعة في أحيان كثيرة، وقد يتغير ذلك للأفضل إذا تمكن البنك المركزي في عدن من توفير بيئة عمل مناسبة للقطاع المالي والمصرفي.
على الرغم من هذه المكاسب المحتملة للحكومة الشرعية، إلا أنّه يبقى للحوثيين قدرةٌ كبيرةٌ على تعطيل المبادلات المالية بين مناطق سيطرتهم والحكومة الشرعية. ينوه “الشريف” إلى أنّ التعاملات الخارجية قد تكون محدودة في مواعيد معينة خلال الشهر، لكن إيقاف التعامل مع شبكات الحوالات المحلية، يعني تعطيل المعاملات اليومية في قطاع الأعمال؛ ما سيتسبب في خسائر كبيرة.
في ظل المواجهات بين الحوثيين والولايات المتحدة، يبدو أن اليمن يقترب من منعطف حاسم في مسار الأزمة الاقتصادية والسياسية التي تعصف بالبلاد منذ سنوات، وقد يتيح هذا للحكومة الشرعية فرصة لاستعادة السيطرة على النظام المصرفي، وإعادة بناء الثقة في المؤسسات المالية، بينما يواجه الحوثيون تحديات أشد صعوبة تضعهم تحت ضغط اقتصادي حاد. ومع ذلك؛ فإن الطريق لا يخلو من المخاطر؛ إذ قد يؤدي الانقسام المالي المستمر إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية وتعميق الفجوة بين المناطق، مما سيصعب من جهود إنهاء الحرب.