Getting your Trinity Audio player ready...
|
ستة أعوامٍ وعلى مشارف العام السابع، أثبتت الحرب في اليمن فيها بأن قرار السلام ليس قراراً وطنياً محلياً، بل مرتبطٌ تماماً بتنافسات المصالح الإقليمية كورقة مساوماتٍ يمكن لهذا اللاعب أو ذاك استخدامها لنيل بعض التنازلات أمام منافسيه.
وعلى ما يبدو أيضاً بأن القرار الدولي قد يمضي إلى حدٍ كبير لرسم خارطة السلام في اليمن، ولذا فالتكهنات والتساؤلات تدور حول طبيعة عملية السلام ومستقبل الحياة السياسية في اليمن، والأهم من كل ذلك كيف سيكون حال الدولة اليمنية القادمة، هل ستكون نسخةً من نماذج الدول الهشة الغارقة في الصراعات والمحاصصات الطائفية والمناطقية في المنطقة؟ وبالتأكيد فهذا أمرٌ ليس في الصالح العام، ولذا يتداول بعض اليمنيين سؤالاً يائساً من قبيل “كيف يمكن تفادي ذلك؟”
المجتمع الدولي والمشاركة الندية
استطاع الرئيس هادي مستنداً على التأييد الدولي والقرارات الأممية تهميش دور القوى السياسية في المرحلة الانتقالية التي أنهاها بالفشل، ثم في إدارته للصراعات داخل صفوف الشرعية بعد اندلاع الحرب.
السعودية أيضاً استطاعت استغلال تأثيرها في المجتمع الدولي إبان الحرب وعلى الإدارة الأميركية السابقة في تهميش دور الأطراف اليمنية المعادية لها، كان آخرها تأثيرها في قرار إدارة الرئيس ترامب تصنيف الحوثيين كجماعةٍ إرهابية، ما يعني إجهاض إمكانية تطبيق الحل السياسي.
ما لم يفهمه هادي وشرعيته ومن ورائه قيادة التحالف العربي في اليمن هو أن الاستمرار في إطالة أمد الحرب وإعاقة الحل السياسي لإيقاف الصراع يقتل آخر آمال السلام والتعدد، يمكن ملاحظة ذلك في طموحات جماعة أنصار الله وموقفهم من الحرب والسلام مطلع الحملة العسكرية في مارس 2015 ووضعهم العسكري والاقتصادي وطموحاتهم السياسية في العام 2021.
أسهم المجتمع الدولي أيضاً في تعقيد الأزمة اليمنية بمنحه ورق لعبٍ خاصة لدول التحالف وهادي وتحجيمه دور الأطراف الأخرى الفاعلة والمؤثرة في الأرض كحزب المؤتمر وأنصار الله وتجمع الإصلاح، إذ تعامل مع قوى صنعاء كأطراف منقلبة على الدستور في مقابل صاحب الحق في الحكم، بانياً قراراته بمعزلٍ على تداعيات الـ 21 من سبتمبر 2014، ومتغافلاً عن حقيقة تكوين دولة المرحلة الانتقالية المبنية على التوافق السياسي لا الشرعية الشعبية أو الدستورية التي تقتضي استمرار التعامل مع القوى السياسية كأطرافٍ ندية طوال المرحلة الانتقالية.
متناقضاً مع نفسه، أقر المجتمع الدولي عقوباته ودعم أطرافاً ضد أخرى سياسياً وعسكرياً في الوقت نفسه الذي استمر في دعوته للحوار بين القوى السياسية، الأمر الذي أذكى شدة المواجهات العسكرية وصنع رؤيةً لدى الأطراف المقصية كجماعة أنصار الله والمؤتمر والمجلس الانتقالي الجنوبي بضرورة التفوق العسكري على الأرض لضمان موقفٍ أقوى على طاولة المفاوضات في ظل موقف المجتمع الدولي وإجراءاته بحقهم.
رفع العقوبات عن كافة القوى السياسية اليمنية وقياداتها دون استثناء وتعامل المجتمع الدولي معها بحياديةٍ تامة للسماح بوجودٍ سياسيٍ نديٍ بين كافة الأطراف وإشراك كافة القوى السياسية في عملية بناء الدولة اليمنية والانخراط في تجربةٍ ديمقراطية هو الخطوة الأولى في صناعة السلام والمرحلة الانتقالية بعده.
علاوةً على ذلك، فرضت القرارات المتهورة للحرب في اليمن صناعة امتدادت تحالفاتٍ خارجية إقليمية ودولية على مختلف القوى السياسية، ولذا فإن محاولة ربط واشنطن والمجتمع الدولي لقرار حجم مشاركة أي قوةٍ سياسيةٍ في عملية السلام أو مخرجاتها بناءً على نوع حليفها لن يساعد في الخروج بأي نتيجة سواء استمرار الصراع الداخلي وبقاء اليمن بؤرة تهديدٍ إقليمي.
السلام الصعب
المشكلة الحقيقية في حل النزاعات المسلحة متعلقةٌ بتطبيق مخرجات المفاوضات المرتقبة على أرض الواقع، فالحرب في اليمن وإن كان لها بعد اعتداءٍ خارجي، إلا أنها حربٌ أهليةٌ وطائفية في حقيقة الأمر قبل أن تكون حرب التدخل الدولي أو الإقليمي.
الأزمة اليمنية وسعة التدخلات الخارجية صنعت قوى جديدة ودعمت أقليات مسالمة بالسلاح، ووسعت من حجم قوة الأطراف المحلية البارزة في الحرب، وخصوصاً تلك التي تحمل بعداً طائفياً في دوافعها الخاصة للصراع.
المناطق الخاضعة لسيطرة كل طرفٍ بقوة السلاح بالتأكيد لن تكون آمنةً لتواجد الأطراف الأخرى فيها، وهو ما يجعل من تطبيق اتفاقات السلام والشراكة المستقبلية أمراً صعباً، وما يجعل البعض يحتمل رضا المجتمع الدولي ببقاء الأراضي التي يسيطر عليها أطراف الصراع تحت إدارتهم.
هذا بالتأكيد لن يصب في صالح عملية السلام والدولة المدنية، إنما سيجعل ذلك من العملية أشبه بالتهدئة والتهيئة لتقسم الأرض اليمنية لدويلات مستقبلية تمثل كلٌ منها مشروعاً خارجياً ما.
خارطة طريق
إن محاولة رسم خارطة طريقٍ واقعية للحل السياسي في اليمن يسترعي استباق ذلك بإحداث استعادة موضوعية لسجل الأحداث على الساحة السياسية منذ موجة الربيع وحتى اللحظة، بالإضافة للإلمام بالعمق التاريخي للمشكلة اليمنية في تحولاتها المختلفة في العصر الحديث، ابتداءً بالخروج العثماني والعهد الملكي انتهاءً بالتحول الجمهوري والوحدوي، ومسؤولية انهيار الدولة.
استعادة هذا السجل يحتاج لأن يكون موضوعي الطابع، ولهدف الخروج بحلولٍ عادلة ومنصفة لكل الأطراف المحلية الفاعلة مهما كانت مصالح الدول الخارجية فيها.
الاستعادة الموضوعية للأحداث ليست بقصد تحميل طرفٍ أو معاقبته، وإنما محاولة فهم المشكلة والمظاهر التي تسببت بانهيار العملية السياسية ومحاولة تفاديها مستقبلاً وبناء الحل السياسي وشكل دولة المرحلة الانتقالية على ضوئها.
والأهم من كل ذلك هو محاولة فهم أسباب تداعي الفوضى وفشل المرحلة الانتقالية، لتجنب حدوث ذلك مجدداً عبر وضع حلول تلفيقية ستصل لتكرار ذات النموذج السابق لشكل الدولة في المرحلة الانتقالية.
يظهر هذا جلياً في أحد أهم أسباب انهيار الدولة اليمنية، القبيلة المدينة، دوغماجية القبيلة والدولة التي تتحكم فيها القبيلة بمجريات العملية الديمقراطية وأداء السلطات الثلاث في الدولة وتتدخل حتى في أصغر أبسط مناصبها.
لأسبابٍ تتعلق بتحكم ونفوذ القبيلة والمكونات العرقية والاجتماعية في التحولات الثورية في اليمن، ما فشل فيه التحول الثوري منذ ثورة سبتمبر 1962، هو عدم قدرته تحقيق الأبعاد الثورية، أو بالأحرى غياب الرغبة الحقيقية لدى نُخَب الثورات في إبدال النظم الاجتماعية كأهم بعدٍ ثوري في طريق التجربة الديمقراطية، وإنما محاولة تحقيق بُعدين ثوريين هما إبدال النخب السياسية وإبدال مؤسسات الدولة.
عمل على استمرار تدوير المشكلة وتحول المكونات الاجتماعية الحاكمة لمكونات مضطهدة تتنامى لديها مشاعر الإضطهاد والرغبة في إحداث التغيير الثوري لاستعادة ما ترى أنها تستحقه وتقصى منه، الأمر الذي يجعلها تلجأ للفعل الثوري وعن طريق السلاح لتحقيق التغيير ونيلها ما ترى أنها تستحقه.
حلول عادلة
إن محاولة الإدارة الأميركية أو المملكة في الرياض فرض خارطة سلامٍ وفق رؤيتهم الخاصة للحرب في اليمن وموقع مصالحهم منها على مختلف الأطراف هو أمرٌ صعب التحقق، ذلك أنها في الحقيقة تمثل طرفاً أساسياً في الحرب، وهذا ما ينظر له أيضاً فريق صنعاء، ولذا سيصبح الأمر أشبه بعرض سلامٍ من طرفٍ واحد.
إن المنطلقات التي تمسكت بها الشرعة الدولية متمثلةً في قرار مجلس الأمن 2216 أسهم في إطالة أمد الحرب وقتل الفرص أمام أي حلولٍ سياسية حقيقية تعيد ترتيب المشهد السياسي بين القوى الفاعلة محلياً كبديلٍ عن الإبدال الثوري الذي يبدو بأن غباء نخبة حكومة الشرعية في التمسك بقرارات مجلس الأمن والاتكاء على الدعم الخارجي فوت عليهم فرصة النجاة.
ما لا تدركه الرياض وحكومة الشرعية من بعدها هو أنها في مماطلتها للدخول في حلٍ سياسي ستجد نفسها أمام تحقق إبدالٍ ثوريٍ حقيقيٍ في النظم الاجتماعية والنخب السياسية وشكل مؤسساتها، وهو ما يجري بالفعل الآن في صنعاء بعد أن عانى الشعب جمر الحرب وأصبح خدراً على أمل الخلاص.
أعاقت الرياض محادثات الكويت بداية الحرب ومن ثم جنيف والتي حاولت فيها فرض حلولٍ غير عادلة ومجحفة بحق الحوثيين وحزب الرئيس صالح في ذلك الوقت، وهو الأمر الذي يمكن وصفه بالنتيجة الحالية بأنه تعنتٌ قتل أهم فرص السلام والعودة لحياة سياسية تجمع مختلف الأطياف السياسية اليمنية.
الآن وعلى ما يبدو، وإن كانت أيضاً بعيدةً كل البعد عن وصفها بفرصة سلام إلا أنها في الواقع المحاولة الأخيرة لكسب تحقق تنوعٍ سياسيٍ في مستقبل الحياة السياسية اليمنية، ما يعني ضرورة وجود حلولٍ عادلة ومنصفة لكل الأطراف من جهة، وعادلة بحق مستقبل الدولة اليمنية التي تضمن حرية واستقلال الشعب وديمقراطية نظامه.
تفاؤلات سقفها عالٍ
يمكن للسعودية مثلاً فرض معادلاتٍ ما لتحقيق أمنها وفق ادعاءات أسباب تدخلها العسكري المباشر مطلع العام 2015، ولكن هذا سيكون محكوماً أيضاً بطبيعة دورها في العملية السياسية اليمنية مستقبلاً وعلاقاتها بمكون أنصار الله الحوثيين تحديداً.
في حوارٍ عقده معه مركز صنعاء للدراسات الإستراتيجية، أظهر السفير الأميركي الأسبق جيرالد فايرستاين تفاؤلاً كبيراً حول ما وصفه بتخلي أنصار الله عن طهران وصنع علاقاتٍ إستراتيجيةٍ مع الرياض، ومن جهةٍ أخرى تخلي طهران عن أنصار الله مقابل تنازلاتٍ أخرى تقدمها واشنطن والرياض في إعادة رسم خارطة مصالح القوى المؤثرة في المنطقة مع قدوم الإدارة الجديدة في البيت الأبيض.
بنى السفير الأميركي، الذي يقود مبادرة السلام في وزارة الدفاع الأميركية حالياً، تنبؤاته على ما أسماه بخبرته مع الحوثيين، الذين وصفهم بالأذكياء، مستنداً على معطياتٍ جيوسياسية تحتم على طهران وأنصار الله في اليمن اتباع مثل هذه الإستراتيجية كرؤيةٍ موضوعية لتحقيق المصلحة.
ما غفِلَ عنه فايرستاين هو دور الاصطفافات الإقليمية الذي تحتمه اصطفافات اتفاقات إبراهيم على محور طهران، بالإضافة لإغفاله دور الأيديولوجيا في عملية الاصطفاف هذه، فمهما كانت المصالح هي الطاغية على طبيعة المشهد السياسي والعسكري فإنها تصل لخطوطٍ حمراء.
من جهةٍ أخرى، إن تحقق رؤيةٍ كهذه التي يراها السفير فايرستاين مرتبطةٌ حسب وصفه في إعادة ترتيب خارطة المصالح الإقليمية بين القوى المؤثرة، وعلى رأسها الولايات المتحدة وإيران، وهو أمرٌ مبهم رغم كم التفاؤل الدائر حوله، وخصوصاً مع التغيرات التي تحدث والمرتقبة الحدوث في إدارات البلدين.
يفضي هذا أيضاً إلى أهمية تجنيب ربط الأزمة اليمنية بصناعة حلولٍ شاملةٍ لمشكلات المنطقة وإعادة رسم خارطة المصالح فيها، فمن أجل السماح بتعافي الحياة السياسية في اليمن واستقرارها يجب تحييدها دولياً عن الصراعات الإقليمية والدولية وعدم ربط الملفات المحلية بملفات القوى الإقليمية.